أخر الاخبار

مطوية الخشوع في الصلاة

مطوية الخشوع في الصلاة


الحمد الله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.. أما بعد:
فإن الله تعالى قد عظم الصّلاة في القرآن، وعظم أمرها وشرفها وشرف أهلها، وخصها بالذّكر من بين الطّاعات كلها في مواضع من القرآن كثيرة، وأوصى بها خاصة. والصّلاة: آخر ما أوصى به النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- أمّته عند خروجه من الدّنيا، وهي آخر ما يذهب من الإسلام، وهي أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من عمله.


-الخشوع

إن المقصود الأعظم من الصّلاة وروحها: الخشوع، وهو: حضور القلب فيها بين يدي الله -تعالى- محبةً له وإجلالًا وخوفًا من عقابه، ورغبةً في ثوابه، مستحضرًا لقربه، فيسكن لذلك قلبه، وتطمئن نفسه، وتسكن حركاته؛ متأدبًا بين يدي ربّه، مستحضرًا جميع ما يقوله ويفعله في صلاته، من أولها إلى آخرها، فتزول بذلك الوساوس والأفكار. وهذا أمر تهاون به النّاس في هذه الأيام.

فكثير من النّاس من حين ما يدخل في الصّلاة، يبدأ قلبه يتجول يمينًا وشمالًا في التّفكير والهواجس. ولهذا تجده يخرج من صلاته، وما استنار بها قلبه، ولا قرّت بها عينه، ولا انشرح بها صدره، ولا قوي بها إيمانه.

-أسباب الخشوع في الصّلاة

قال الله -تعالى-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1-2]، فلا يرجو الفلاح إلا الخاشعون، جعلنا الله منهم، فمن فاته خشوع الصّلاة، لم يكن من أهل الفلاح.
وأصل الخشوع: هو لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح.
ولهذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في ركوعه في الصّلاة: «اللهمّ! لك ركعت. وبك آمنت. ولك أسلمت. خشع لك سمعي وبصري. ومخي وعظمي وعصبي» [رواه مسلم]. ولذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله من قلب لا يخشع.

وأول ما تفقد هذه الأمة الخشوع، فعن أبي الدّرداء -رضي الله عنه- أن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعًا» [رواه المنذري بإسناد حسن وصححه الألباني في صحيح الجامع].

وهذا والله أعلم يعود لسببين: الأول: عدم تذكير الدّعاة وطلبة العلم النّاس بالخشوع في الصّلاة.
الثّاني: كثرة الفتن المرئية والمسموعة في هذا الزّمان العصيب.

-مراتب النّاس في الخشوع

والخاشعون درجات، والخشوع من عمل القلب يزيد وينقص فمنهم من يبلغ خشوعه عنان السّماء ومنهم من يخرج من صلاته لم يعقل شيئًا، والنّاس في الصّلاة على مراتب خمسة:

أحدها: مرتبة الظّالم لنفسه المفرط، وهو الّذي انتقص من وضوئها ومواقيتها وحدودها وأركانها.

الثّاني: من يحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها الظّاهرة ووضوئها، لكنه قد ضيّع مجاهدة نفسه في الوسوسة، فذهب مع الوساوس والأفكار.

الثّالث: من حافظ على حدودها وأركانها وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار، فهو مشغول بمجاهدة عدوه لئلا يسرق صلاته، فهو في صلاةٍ وجهادٍ.

الرّابع: من إذا قام إلى الصّلاة أكمل حقوقها وأركانها وحدودها، واستغرق قلبه مراعاة حدودها وحقوقها لئلا يضيع شيئًا منها، بل همّه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي وإكمالها وإتمامها، قد استغرق قلبه شأن الصّلاة وعبودية ربّه -تبارك وتعالى- فيها.

الخامس: من إذا قام إلى الصّلاة قام إليها كذلك، ولكن مع هذا قد أخذ قلبه ووضعه بين يدي ربّه -عزّ وجلّ-، ناظرًا بقلبه إليه، مراقبًا له، ممتلئًا من محبته وعظمته، كأنه يراه ويشاهده، وقد اضمحلت تلك الوساوس والخطرات، وارتفعت حجبها بينه وبين ربّه، فهذا بينه وبين غيره في الصّلاة أعظم مما بين السّماء والأرض، وهذا في صلاته مشغول بربّه -عزّ وجلّ- قرير العين به.

فالقسم الأول معاقب، والثّاني محاسب، والثالث مكفّر عنه، والرّابع مثاب، والخامس مقرّب من ربّه؛ لأن له نصيبًا ممن جُعلت قرّة عينه في الصّلاة، فمن قرّت عينه بصلاته في الدّنيا، قرّت عينه بقربه من ربّه -عزّ وجلّ- في الآخرة، وقرّت عينه أيضًا به في الدّنيا، ومن قرت عينه بالله قرّت به كل عين، ومن لم تقرّ عينه بالله -تعالى- تقطعّت نفسه على الدّنيا حسرات.

الأسباب التي تعين على الخشوع

-السّبب الأول: الاستعداد للصّلاة قبل دخول الوقت وهذا يكون بعدة أمور:
أولًا: إسباغ الوضوء: كلنا يتوضأ إذا أراد الصّلاة، ولكن أكثر الأحيان يريد الإنسان أن يقوم بشرط العبادة فقط، وهذا لا بأس به، ويحصل به المقصود، ولكن هناك شيء أعلى وأتم:

1- إذا أردت أن تتوضأ، استشعر أنك ممتثل لأمر الله في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، حتى يتحقق لك معنى العبادة.

2- إذا توضأت استشعر أنك متبع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه قال: «من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه» [رواه البخاري ومسلم]، حينئذ يكون الإخلاص و المتابعة.

3- احتسب الأجر على الله -عزّ وجلّ- بهذا الوضوء؛ لأن هذا الوضوء يكفر الخطايا، فتخرج الخطايا من اليد مع آخر قطرة من قطرات الماء بعد غسل اليد، وهكذا البقية.

هذه المعاني الثّلاثة العظيمة الجليلة، أكثر الأحيان نغفل عنها.

ثانيًا: تطييب رائحة الفم و الأسنان: إن تطييب الفم بالسّواك: فيه التهيؤ للوقوف بين يدي الله -تعالى-. عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لولا أن أشق على أمتي -أو على النّاس- لأمرتهم بالسّواك مع كل صلاة» [رواه البخاري].

ثالثًا: التّزين للصّلاة: عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله تعالى أحق من تزين له» [صححه الألباني].

- السّبب الثّاني: قطع الحركة والعبث، وملازمة السّكون عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم، عند الدّعاء في الصّلاة إلى السماء أو لتخطفن أبصارهم» [رواه مسلم]. فلما كان رفع البصر إلى السّماء، ينافي الخشوع؛ حرمه النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- وتوعد عليه.

- السّبب الثّالث: أن يستحضر العبد أنه واقف بين يدي الله -تعالى-، وأن يناجيه. عن البياضي -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن المصلي يناجي ربه، فلينظر بما يناجيه به» [صححه الألباني].
لابد من مراقبة الله تعالى؛ ليستقيم أمر الصلاة، لا بد أن نضع الدّنيا وراء ظهورنا، وماذا لو علم الشخص أن كلماته المسموعة، وأنها بالغة السّلطان لا محالة، ماذا سيقولون؟ وكيف يتكلم؟ ألا تجده يزن الحروف والكلمات؟ فكيف بمن سيمثل أمام السّميع البصير العليم، الّذي لا تخفى عليه خافية؟!

- السّبب الرّابع: أن يستحضر العبد أن الله قريب منه يراه و يسمعه. عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى بصاقًا في جدار القبلة، فحكه، ثم أقبل على النّاس فقال: «إذا كان أحدكم يصلي، فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه إذا صلى» [رواه البخاري ومسلم].
ومقصود النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بذكر هذا: أن يستشعر المصلي في صلاته قرب الله منه، وأنه بمرأى منه ومسمع، وأنه مناجٍ له، وأنه يسمع كلامه ويرد عليه جواب مناجاته له.

- السّبب الخامس: إحضار القلب فيها، وعدم انشغاله بهموم الدّنيا وأعمالها، وأن يقبل بقلبه على الله -تعالى-، ولا يشتغل بغير صلاته . عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه. ثم يقوم فيصلي ركعتين. مقبل عليهما بقلبه ووجهه. إلا وجبت له الجنّة» [رواه مسلم]. ولهذا جاء النّهي عن الالتفات في الصّلاة، وهو نوعان:

أحدهما: التفات القلب عن الله -تعالى-: بأن ينصرف إلى الدّنيا و أشغالها، ولا يتفرغ لربه تعالى. النّوع الثّاني: الالتفات بالنّظر يمينًا وشمالًا، والمشروع قصر النّظر على موضع سجوده؛ لأن ذلك من لوازم الخشوع، ويقطع عنه الاشتغال بالمناظر الّتي حوله.

- السّبب السّادس: ذكر الموت: عن أنس -رضي الله عنه- قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اذكر الموت في صلاتك، فإن الرّجل إذا ذكر الموت في صلاته لحري أن يحسن صلاته، و صل صلاة رجل لا يظن أن يصلي صلاة غيرها» [حسنه الألباني]. فانظروا -يرحمني الله وإياكم– إلى صلاتنا، أهي حسنة أم لا؟

عن أبي أيوب -رضي الله عنه- قال: جاء رجلٌ إلى النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله علمني وأوجز. قال: «إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع» [رواه ابن ماجة وحسنه الألباني] يعني: يستشعر أنه يصلي صلاة لا يصلي بعدها صلاة أخرى، فيحمله ذلك على إتقانها وتكميلها وإحسانها.

- السّبب السّابع: أن يعلم العبد أن الشّيطان حريص على صرف قلب المصلي عن الله -تعالى- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا نودي بالصّلاة أدبر الشّيطان وله ضراط، فإذا قضي أقبل، فإذا ثوب بها أدبر، فإذا قضي أقبل، حتى يخطر بين الإنسان وقلبه، فيقول: اذكر كذا وكذا» [رواه البخاري]. فتأمل في صلاتك وانظر هل تفرغ قلبك لله، تصلي لله -تعالى- كأنك تراه، قد اجتمع همّك كله على الله، و صار ذكره ومراقبته ومحبته، والأنس به في محل الوساوس أم لا؟

- السّبب الثّامن: أن يعلم العبد بأن روح الصّلاة ومقصودها الأعظم، حضور القلب بين يدي الله، ومناجاته بكلامه، وذكره والثّناء عليه، ودعاؤه والتّضرع إليه، وطلب القربة عنده، ورجاء ثوابه. و أن الصّلاة بلا خشوع، كالجسم بلا روح، وكالقشور بلا لب، أفلا يستحيي العبد أن يواجه سيده بمثل ذلك؟!
ولهذا جاء في الحديث عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم: «إن الرّجل لينصرف، وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها» [رواه أبو داود وحسنه الألباني]. يعني والله أعلم أن ذلك على حسب حضور قلبه فيها، وإحسانها.

- السّبب التّاسع: أن يعلم العبد أن الصّلاة أول ما يحاسب عليه. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته ، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح ، وإن فسدت فقد خاب وخسر» [رواه التّرمذي وصححه الألباني].

قال ابن القيم -رحمه الله-: للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصّلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقّه شدد عليه ذلك الموقف، قال -تعالى-: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا} [الإنسان: 26-27].

كان حذيفة -رضي الله عنه- يقول: إياكم وخشوع النّفاق. فقيل له: وما خشوع النّفاق، قال: أن ترى الجسد خاشعًا والقلب غير خاشع.

-مع سماحة الشّيخ

قال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: والخشوع له أسباب، وعدمه له أسباب، فللخشوع أسباب وهي: الخضوع بين يدي الله، وأن تذكر أنك واقف بين يديه -سبحانه وتعالى-، وقد ورد في الحديث الصّحيح: «إذا قام أحدكم إلى الصّلاة فلا يمسح الحصى فإن الرّحمة تواجهه» [حسنه التّرمذي]، وفي لفظ آخر: «إن أحدكم إذا قام في صلاته، فإنه يناجي ربّه» [رواه البخاري]، فالإنسان إذا دخل في الصّلاة فإنه يناجي ربه فيتذكر هذا المقام العظيم، وأنه بين يدي الله، فليخشع لله، وليقبل على صلاته، وليتذكر عظمة الله -عزّ وجلّ-، وأنه بين يدي أعظم عظيم -سبحانه وتعالى-، وليقبل على صلاته وليقبل على قراءته وعلى سجوده وركوعه، ويتذكر كل ما يلزم في هذا المقام، وأن غفلته عن الله تنقص صلاته فينبغي له أن يتذكر ذلك حتى تزول عنه الغفلة وحتى تزول عنه الوساوس، ويسأل ربه العون على هذا في سجوده، وفي آخر التحيات يقول: اللهم أعني على الخشوع، اللهم يسر لي الخشوع، اللهم أعذني من الشّيطان ومن شر نفسي يسأل ربه، ويستعين به -سبحانه وتعالى- (مجموع فتاوى و مقالات متنوعة الجزء الحادي عشر).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين...

لتحميل المطوية
التحميل  

Flag Counter
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-